عبد العالي المصباحي يكتب “الشكاية والوشاية”

مقدمة

الشكاية في اللغة مشتقة من “الشكو” و”الشكاة” و”الشكوى” وهي إظهار البت، ويقال فتح الشكوة وأظهر ما فيها وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء.

فالشكوى إذن هي أن يقدم شخص لآخر مشكلته وأن يبثه همومه وأن يظهر له ما في قلبه من أحزان ويضع بين يديه ما يعاينه من آلام بهدف الحصول على مساعدته، أو أن يجد له حلا لما هو فيه، وذلك لصفة المشتكى إليه أو ظرف لصيق به من شأنه بفضل مركزه أن يفرج عن المشتكي ويجد له حلا لما هو فيه.

وفي القرآن الكريم لم تأتي كلمة شكاية إلا مرتين أولها في صورة يوسف الآية 86 :

 )إنما أشكو بتي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (

والشكوى هنا صادرة من سيدنا يعقوب إلى ربه، حينما فقد ابنه الثاني وهو بن يمين لما أمر العزيز بالإبقاء عليه عنده، بعدما وجد سقاء الملك برحله، وكانت بالنسبة لسيدنا يعقوب المرة الثانية التي يفقد فيها ابنا آخر بعدما سبق وفقد ابنه يوسف.

وكلمة شكوى الأخرى الواردة في القرآن جاءت في صورة المجادلة الآية 1 :

)قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (

وأسباب نزولها أن المشتكية هنا هي خولة بنت ثعلبة، جاءت تشتكي زوجها أوس بن الصامت, إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما ظاهر منها فعرضت الأمر على النبي (ص) وطلبت منه بيان الحكم.

*مفهوم الشكاية

لم يعط المشرع المغربي أي شرح لمفهوم الشكاية على اعتبار وضوح الكلمة في حد ذاتها، إنما جاءت على حالتها في بعض فصول المسطرة الجنائية وكان أولها الفصل 21 والذي نص على ما يلي : « يباشر ضباط الشرطة القضائية السلطات المحددة في المادة 18 ويتلقون الشكايات والوشايات ….. ».

تم الفصل 40 من قانون المسطرة الجنائية : « يتلقى وكيل الملك الشكايات والوشايات ويتخذ بشأنها ما يراه ملائما … يحيل ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من إجراءات بشأنها إلى هيئات التحقيق أو إلى هيئات الحكم المختصة أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه ».

الفصل 49 من قانون المسطرة الجنائية : « يتولى الوكيل العام للملك السهر على تطبيق القانون الجنائي … يتلقى الشكايات والوشايات والمحاضر الموجهة إليه ويتخذ بشأنها ما يراه ملائما من الإجراءات.

يحيل الوكيل العام للملك ما يتلقاه من شكايات ووشايات وما يتخذه من إجراءات إلى هيئات التحقيق أو هيئات الحكم … ».

الفصل 84 من قانون المسطرة الجنائية : « …. إذا علم قاضي التحقيق بوقائع لم يشر إليها في ملتمس إجراء التحقيق، تعين عليه أن يرفع حالا إلى النيابة العامة الشكايات والمحاضر المتعلقة بها ».

الفصل 92 من قانون المسطرة الجنائية : « يمكن لكل شخص ادعى أنه تضرر من جناية أو جنحة أن ينصب نفسه طرفا مدنيا عند تقديم شكايته أمام قاضي التحقيق المختص، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ».

الفصل 93 من قانون المسطرة الجنائية : « يأمر قاضي التحقيق بتبليغ الشكاية إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك لتقديم ملتمساته …

يمكن للنيابة العامة في حالة تقديم شكاية لا تدعمها أسباب كافية أو لا تبررها المستندات المقدمة، أن تلتمس من قاضي التحقيق فتح تحقيق مؤقت حول أي شخص قد يكشف عنه البحث … ».

الفصل 98 من قانون المسطرة الجنائية : « … فيمكن للمتهم ولكل الأشخاص المشار إليهم في الشكاية أن يطلبوا من المشتكي تعويضهم عن الضرر أمام المحكمة المدنية المختصة … ».

الفصل 118 من قانون المسطرة الجنائية : « … غير أنه يمكن للشخص الموجهة ضده شكاية مرفقة بالمطالبة بالحق المدني أن يرفض سماعه بصفة شاهد وعلى قاضي التحقيق أن يشعره بهذا الحق وأن يطلعه على الشكاية … ».

الفصل 708 من قانون المسطرة الجنائية : « … علاوة على ذلك، فإنه في حالة ارتكاب جنحة ضد شخص، لا يمكن إجراء المتابعة إلا بطلب من النيابة العامة بعد توصلها بشكاية من الطرف المتضرر … ».

ثم جاءت كلمة شكاية في شكل عنوان بالباب السادس باسم الشكاية المباشرة فجاء الفصلان 748 و749 من قانون المسطرة الجنائية ليتحدثان عن الجرائم التي يرتكبها بعض الأجانب في المغرب أو في دولة أجنبية فتقدم شكاية رسمية بالطريقة الدبلوماسية إلى البلد الأصلي لمرتكب الجريمة الذي يكون قد غادر الحدود قبل محاكمته من أجل ما ارتكب من جرم.

وبقراءة متأنية لهذه الفصول نجد أن المشرع المغربي كما سبق القول لم يعرف الشكاية في مفهومها القانوني والسبب والغاية في تقديمها إلى الجهة المشتكى لديها، إذ ترك ذلك للوصول إلى شرح مضامينها في كل فعل على حدى، لهذا يمكن إعطاء تعريف لها على الصيغة الآتية :

« الشكاية هي كل طلب للبحث في جريمة معينة، يتقدم به متضرر فعلي أو مفترض من هذا الجرم، أو ولي له أو وكيل عنه إلى السلطة القضائية أو إلى إدارة عمومية لها حق امتياز في إقامة الدعوى العمومية، وذلك في مواجهة مرتكبها أكان معلوما أو مجهولا شخصا ذاتيا أو معنويا ».

أما المادتين 2 و3 من قانون المسطرة الجنائية وإن كانتا تتحدثان عن الشكاية فإنه لم يتم ذكر هذه الكلمة, ولكن جاءت بصيغة إقامة الدعوى العمومية إذ نصت المادة 2 على ما يلي :

« يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات والحق في إقامة دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي تسببت فيه الجريمة ».

ونصت المادة 3 :

«…يمكن أن يقيمها الطرف المتضرر طبقا للشروط المحددة في هذا القانون … »,

 فإقامة الدعوى العمومية هنا من طرف المتضرر, لا بد أن تسبقها شكاية للجهات المختصة قصد البدء في البحث بشأنها وتقديم مرتكب الجريمة أمام القضاء، فيكون الضحية بالتالي هو من أقام الدعوى العمومية بواسطة شكايته, وبعدها مارستها وتبنتها النيابة العامة التي ليس لها الحق في التنازل عنها إلا في ظروف معينة سيأتي الحديث عنها فيما بعد.

كما نصت المادة 13 من قانون المسطرة الجنائية : « يمكن للطرف المتضرر أن يتخلى عن دعواه أو يصالح بشأنها أو يتنازل عنها دون أن يترتب عن ذلك انقطاع سير الدعوى العمومية أو توقفها، إلا إذا سقطت ضده الدعوى العمومية تطبيقا للفقرة الثالثة من المادة الرابعة مع مراعاة مقتضيات المادة 372 بعده ».

السؤال المطروح هنا هل تنازل المتضرر عن دعواه أو تخليه عنها أو التصالح بشأنها يقصد به التنازل عن الشكاية في حد ذاتها أم التنازل عن المطالبة بالحق المدني للتعويض عن الأضرار، أم أن التنازل يشملهما معا، كما أن مرادفات التخلي والتصالح والتنازل لم يوضح بشأنها المشرع مفهوم وحدود كل واحدة منها.

فإن كان التصالح قد ندخله في مقتضيات المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية، كلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 50.000 درهم.

وأن التنازل يمكن أن ندرجه في إطارا الجرائم المتوقفة على شكاية المتضرر مباشرة، كما هو الشأن بالنسبة لسرقة الأصول والخيانة الزوجية واستعمال ناقلة دون إذن مالكها.

فأين يمكن أن ندرج كلمة التخلي عن الشكاية، علما أنه لا يوجد في قانون المسطرة الجنائية فصل ينص على كلمة التخلي، فهل تقديم الشكاية أمام جهة قضائية وعدم الحضور مستقبلا للإدلاء بالتصريح بشأنها في محضر رسمي يعتبر تخليا عن الشكاية.

وهل نعتبر أن إدارة الجمارك التي أشعرت من طرف جهة قضائية بوجود جريمة جمركية ولم تقدم ملتمساتها بشأنها تكون قد تخلت عن الشكاية.

كما أن قانون الصحافة عدد 77.00 يتحدث في المادة 49 عن كلمة الإعفاء من الشكوى لفائدة المتهم، وهي بدورها مرادفة للتخلي كل هذه المفاهيم لم يتم التطرق إليها بالشرح، مما يطرح إشكالية جوهرية وهي إلى أي حد تساهم الشكاية في تحريك الدعوى العمومية أو إيقافها أو سقوطها، أو التأثير في قرارات النيابة العامة من متابعة في حالة اعتقال أو حالة سراح أو الحفظ لتنازل المشتكي، كما أن التنازل عن الشكاية في حد ذاته هل يحرم المشتكي من التنصب كمطالب بالحق المدني فيما بعد أو رفع دعوى مدنية مستقلة للتعويض عن الضرر.

شخص المشتكي

يبقى كل شخص تقدم بشكاية أمام جهة قضائية أو مصلحة تعمل تحت إمرتها أو جهة إدارية لها حق إقامة الدعوى العمومية في جرائم معينة مشتكيا بمفهوم قانون المسطرة الجنائية، وسواء تقدم بها شخصيا أو بواسطة محاميه أو وكيله أو وليه الشرعي أو الوصي عليه، أو المقدم، أو ممثله القانوني، فالأمر سيان، كما أنه يكتسب هذه الصفة أكان ضحية مباشرة لجريمة معينة كالمعتدى عليه في جريمة الضرب والجرح, أو ضحية غير مباشرة كالجار الذي يقدم شكاية ضد جاره من أجل الخيانة الزوجية التي ارتكبها هذا الأخير دون علم زوجته التي لها الحق وحدها في تحريك الدعوى العمومية، لأن العبرة هنا هي الضرر الذي لحق المشتكي والذي قد يكشف عنه البحث فيتبين أن هناك جرائم أخرى لم يستطع المشتكي الإخبار عنها لجهل للقانون أو عدم دراية به. ففي حالة الخيانة الزوجية، قد تصاحبها جرائم أخرى مثل التحريض على الفساد أو الإخلال العلني بالحياء، أو إعطاء القدوة السيئة للأولاد وهذه الجرائم بطبيعتها قد تلحق ضررا بالجار المشتكي من أجل الجريمة الأولى التي ارتكبها جاره مع امرأة غريبة، فهو إذن كان ضحية غير مباشر لجريمة الخيانة الزوجية, وحسنا فعل الاجتهاد القضائي بالنيابات العامة بالمغرب إذ لا يتشدد في صفة المشتكي إلى حد بعيد لأن همه بالأحرى هو الكشف عن الجريمة أولا ثم بعد ذلك تأتي مسألة تحديد مواقع الأطراف في الدعوى.

وإن كانت الصفة من النظام العام, فإنها لا تثار من طرف ممثل النيابة العامة الذي يستقبل الشكايات, إذ لا يتشبث بمسألة توفر الصفة إلا في إطار ضيق, كما أن ضابط الشرطة القضائية الذي يحضر لديه المصرح للإخبار عن جريمة لازالت ظروف التلبس قائمة بشأنها ينتقل معه على وجه السرعة دون البحث في مسألة الصفة الخاصة بالمبلغ، لأن حالة الاستعجال تقتضي الانتقال الفوري للتثبت من معالم الجريمة وإلقاء القبض على مرتكبها، وذلك قبل اندثار آثارها, كما لا يشترط في الولي والوصي والممثل القانوني الإدلاء بصفته الخاصة التي تعطيه الحق للتقدم بشكاية نيابة عن القاصر أو الموصى عليه، وكذا الشأن بالنسبة للمحامي الذي يعتبر بطبيعة مهنته وكيلا عن زبناءه في التقاضي نيابة عنهم و تمثيلهم و مؤازرتهم في القضايا الجنائية، ولا يشترط عليه تقديم أصل التوكيل أو الإنابة إلا في الشكايات المتعلقة بالزور التي يقتضي قانون المحاماة بشأنها الإدلاء بتوكيل خاص من الموكل للتقدم أمام القضاء بشكاية في هذا الباب.

فيبقى المشتكي إذن :كل شخص تقدم بشكاية مكتوبة أو تصريح دون في محضر أمام جهات قضائية أو إدارية لها الحق في تلقي الشكايات من أجل جريمة معينة، يفترض فيه أنه تضرر منها أو من مرتكبها، معبرا من خلال شكايته عن رغبته في إجراء البحث وإنزال العقاب والاستفادة من تعويض عن ذلك.

شخص المشتكي به

كل من ارتكب جريمة معينة، فهو مشتكى به مفترض، كلما تم التوصل إلى هويته أو كلما تقدم ضحية الجرم أو أية جهة أخرى أمام السلطات المختصة بشكاية في مواجهته، وقد تقدم الشكاية ضد مشتكى به معلوم الهوية، كما يمكن أن تقدم في مواجهة مجهول يكون البحث البعدي هو الأحرى بالكشف عن هويته، وقد تقدم الشكاية ضد شخص واحد معلوم أو مجهول فيكشف البحث عن فاعلين آخرين إما معلومين أو مجهولين.

وإذا كانت صفة المشتكي لا تثير جدلا بالنسبة للاختصاصين النوعي والمكاني، فعلى عكس ذلك فإن أول ما ينتبه إليه ممثل النيابة العامة أو ضابط الشرطة القضائية أثناء تلقي الشكاية هو شخص المشتكى به، إذ يتم الانتباه إلى محل سكناه ليكون الاختصاص منعقدا مكانيا، كما يتم الانتباه إلى صفته هل هو شخص مدني أم عسكري أم من أصحاب امتياز قضائي لينعقد الاختصاص نوعيا أو أنه قاصر ليتم البحث بشأن شكايته من طرف مصلحة خاصة بالأحداث، وهكذا دواليك لأن صفة المشتكى به ومكان إقامته يؤثران في مسار الشكاية.

وبعد التأكد من صفة المشتكى به يتم البحث بشأن الجرم المنسوب إليه فإن كان يدخل قيد خانة الجنح فإن ممثل النيابة العامة أو مستقبل الشكاية يعي أن الاختصاص ينعقد لوكيل الملك، أما وإن كان يشكل جناية فإن الأمر بطبيعة الحالة سيعطي الاختصاص النوعي للوكيل العام للملك ولكن السؤال المطروح هنا : هل يمنع نوع الجريمة على الجهة مستقبلة الشكاية من البحث فيها متى كانت لا تدخل ضمن خانة اختصاصاتها ؟

فمثلا شكاية من أجل الاغتصاب أو التزوير في محرر رسمي هل تمنع وكيل الملك أن يضع يده عليها ويبحث بشأنها متى قدمت أمامه ؟

بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نجده يقر ضمنيا أن وكيل الملك من حقه استقبال الشكايات المتعلقة بجنايات وذلك من خلال مقتضيات المادة 39 من قانون المسطرة الجنائية التي تقضي بأنه يجب على وكيل الملك أن يخبر الوكيل العام للملك بالجنايات التي تبلغ إلى علمه، وهذا بالمفهوم الضمني, فهو يستقبل الشكايات ضد الأفعال المعتبرة جناية ويشعر بها الوكيل العام للملك.

أما واقعيا فالأمر لا يخلو من ثلاث فرضيات :

  1. إذا قدم المشتكي شكايته المتعلقة بفعل جرمي ووجهها في ديباجتها إلى الوكيل العام للمك : فلا يحق لوكيل الملك هنا وضع يده عليها لأنها لا تخصه أصلا وغير موجهة له شكلا ومضمونا.
  2. إذا قدم المشتكي شكاية من أجل جناية وجهها لوكيل الملك : إن كانت محكمة الاستئناف توجد على مقربة من المحكمة الابتدائية فلا بد من توجيه المشتكي إليها لوضع شكايته، أما وإن كانت توجد بمدينة أخرى غير مقر المحكمة الابتدائية، فحتى لا يشق على المشتكي يمكن لوكيل الملك أن يستقبلها ويشعر حالا الوكيل العام للملك بشأنها والذي سيعطي تعليماته بشأنها ليبدأ البحث فيها من طرف الضابطة القضائية المتواجدة بمقر المحكمة الابتدائية.
  3. إذا قدم المشتكي شكاية من أجل جنحة أمام وكيل الملك وأثبت البحث أن الأمر يتعلق بجناية : لابد في هذه الحالة أن يرفع وكيل الملك يده عن مجريات البحث بما في ذلك إعطاء التعليمات ويتخلى بشأنها لفائدة الوكيل العام للملك اللهم إذا أعطى هذا الأخير تعليماته بمواصلة البحث وإشعاره بالناتج.

وإذ نتطرق هنا بالحديث عن شخص المشتكى به ووصف الفعل المرتكب من طرفه مع تبيان الجهة المختصة للبحث فيه، فذلك لتوضيح مسألة الاختصاص النوعي وعدم الاستمرار في إعطاء تعليمات في شكاية لا تدخل أساسا في خانة اختصاصات الجهة مصدرة الأوامر، لأن ذلك يؤثر سلبا على حسن سير البحث وقد يؤدي إلى اندثار وسائل الإثبات كما لا يعطي الأرقام الحقيقية للجرائم التي تدخل في دائرة معينة، لأن أصحاب الاختصاص غير عالمين بها.

أنواع الشكايات

  1. الشكايات العادية : كل شكاية لا يدخل الفعل المقدمة بشأنه ضمن القوانين الخاصة أو المساطر الاستثنائية تبقى شكاية عادية بطبيعتها، وكلمة عادية هنا تعني أنها تدخل ضمن الشكايات المألوفة لدى الجهات المستقبلة لها ولا يستوجب البحث بشأنها سلوك مسطرة خاصة أو إخبار جهة معينة للقيام بالتحري فيها، ونذكر على سبيل المثال : الشكايات المقدمة بشأن جرائم الاعتداء الجسدي على الأشخاص كالضرب والجرح أو الاعتداء على الأموال كالسرقة أو الممتلكات كانتزاع حيازة عقار.

ولكن هذه الشكايات وإن كانت توصف بالعادية نظرا لطبيعة الفعل المرتكب, إلا أنها قد تأخذ منحا آخر إذا كانت للمشتكي أو المشتكى به صفة خاصة، فالشكاية ضد فعل السرقة إذا كان مرتكبها موظفا وارتكب الفعل في إطار وظيفته أو انصب فعله على مال مملوك للدولة يتغير وصفها فترتفع إلى جناية أو تحال على محكمة خاصة كما كان الشأن عليه بالنسبة لمحكمة العدل الخاصة التي تم إلغاؤها.

كما أن صفة المشتكي قد تغير من وجهة الشكاية كذلك، فتعييب حافلة أو كسر زجاجها إذا كان المشتكي إدارة أو مرفقا عموميا ينقل الشكاية من جريمة إلحاق خسائر مادية بملك الغير إلى جريمة تعييب شيء مخصص للمنفعة العمومية.

  1. الشكاية الرسمية : نصت المادة 748 وكذا المادة 749 على ما يلي :

748 : “إذا ارتكب أجنبي جريمة بأراضي المغرب، وكان من مواطني دولة لا يسمح تشريعها تسليم مواطنيها، فإنه يمكن للسلطات المغربية في حالة لجوء مرتكب الجريمة إلى وطنه أن تقوم بإبلاغ دولته بما ارتكبه من أفعال للحصول على متابعة طبقا لتشريع الدولة المطلوبة.

يتم الإبلاغ عن الجرائم بالطريق الديبلوماسي، يتضمن الإبلاغ عرضا للوقائع، ويبين فيه بدقة مكان ووقت ارتكاب الجريمة والعناصر المكونة لها والنصوص المطبقة عليها بالمغرب وجميع العناصر الأخرى التي يمكن استعمالها كوسائل إثبات، ويرفق على الخصوص بنسخ مصادق على مطابقتها للأصل من محاضر المعاينة والاستماع إلى الشهود أو إلى المساهمين أو المشاركين في الجريمة الذين يوجدون بالمغرب.

تطبق مقتضيات الفقرات أعلاه مع مراعاة الاتفاقيات المبرمة في هذا الصدد”.

749 : “يمكن في حالة التوصل بشكاية رسمية من دولة أجنبية أن يتابع بالمغرب المواطن المغربي الذي يرتكب جريمة بالخارج أو داخل المملكة، ولا يتم تسليمه للدولة الأجنبية اعتبارا لجنسيته المغربية، ويحاكم ويصدر الحكم عليه وفقا لمقتضيات القانون المغربي”.

جاءت المادتين 748 و749 من قانون المسطرة الجنائية واضحتين بشأن تفسير معنى الشكاية الرسمية إذ اعتبرتا أن كل أجنبي ارتكب جريمة بأرض المغرب يتم إبلاغ دولته بما ارتكب للحصول على متابعته طبقا لتشريعها. وأن كل دولة أجنبية تقدمت بشكاية في مواجهة مغربي، يتابع بالمغرب من أجل الجرم الذي ارتكبه بالخارج أو داخل المغرب، وللحديث عن الجرائم خارج الحدود لابد من الحديث عن مفهوم الأراضي المغربية والتي تدخل فيها حسب الفصل 11 من القانون الجنائي السفن والطائرات المغربية أينما وجدت فيما عدا الحالات التي تكون فيها خاضعة لتشريع أجنبي بمقتضى القانون الدولي.

  1. الشكاية الآمرة : أعطيت هذا الاسم لهذا النوع من الشكايات وذلك لما تحمله من أمر موجه للنيابة العامة لتحريك الدعوى العمومية بشأنها دون وجود خيار لتطبيق مبدأ ملاءمة المتابعة ومثلها ما نصت عليه المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها “يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها.

وله أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية”.

وقد كرست المادة 110 من الدستور الجديد هذا المبدأ إذ قضت بما يلي :

” … يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها”.

ونصت المادة 71 من ظهير 15 نوفمبر 1958 الخاص بقانون الصحافة، أن بعض الشكايات الخاصة بالقذف في مواجهة أعضاء الحكومة مثلا أو الموظفين المسندة إليهم مباشرة السلطة العمومية توجه إلى وزير العدل الذي يحيلها بدوره على النيابة العامة المختصة التي تجري بشأنها المتابعة في إطار ما يسمى بالشكاية الآمرة، والتي لا يمكن للنيابة العامة هنا إعمال سلطة الملاءمة في المتابعة من عدمها مادام أن التعليمات تدخل في إطار المشروعية القانونية.

4-الشكاية المقيمة للدعوى العمومية :

وهي الشكايات التي لا يمكن ممارسة الدعوى العمومية بشأنها إلا بوجودها وتقديمها من طرف الشخص الذي أعطاه المشرع الحق في إقامتها ومثلها : الشكاية الخاصة بالخيانة الزوجية التي لا يمكن إقامتها إلا من أحد الزوجين ضد الآخر, ما لم يكن المشتكي يقيم خارج المغرب، إذ ينقل الاختصاص هنا للنيابة العامة. أو شكاية استعمال ناقلة دون إذن مالكها، أو السرقة في حق الأصول أو الجرائم الجمركية أو بعض جرائم الصحافة التي لا بد لها من شكاية من الجهة الموجه في حقها القذف للتمكن من إقامة الدعوى العمومية، وإذا كانت هذه الشكايات لا يمكن تصور إقامة دعوى عمومية إلا بوجودها فبالمفهوم المعاكس لا يمكن الاستمرار في ممارسة الدعوى العمومية بعد التنازل بشأنها من طرف المشتكي.

وهذا النوع من الشكايات يقزم دور النيابة العامة في ممارسة الدعوى العمومية وزجر مرتكبي الجرائم فلا تمارس سلطة الدعوى العمومية لأنها تصبح حقا للمشتكي الذي له أن يتنازل بشأنها على خلاف النيابة العامة التي لم يخول لها المشرع الحق في التنازل عنها لأنها تمارس سلطة ولا تمارس حقا، اللهم ما تم استثنائه في المادة 372 من قانون المسطرة الجنائية الذي أعطى الحق لممثل النيابة العامة في التماس وقف سير الدعوى العمومية، وكذا المادة 41 التي تعطي الحق في تضمين الصلح وتحرير محضر بشأنه ورفعه لرئيس المحكمة.

5- الشكاية المباشرة:

تنقسم الشكاية المباشرة إلى قسمين :

أ- الشكاية المقدمة أمام قاضي التحقيق

يحق لكل شخص تقديم شكايته أمام قاضي التحقيق مرفوقة بمطالبه المدنية وبعد أداء الرسوم القضائية عليها فإذا تعلق الأمر بجناية فإن الشكاية تقدم أمام قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف، أما وإن تعلق الأمر بجنحة يعاقب عليها القانون بخمس سنوات حبسا أو أكثر فإن الشكاية الخاصة بها تقدم أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية ومن هنا يمكن فهم أن الجنح التي لا تتجاوز العقوبة عنها خمس سنوات حبسا كحد أقصى فلا يمكن مباشرة التحقيق بشأنها. وقد نصت المادة 92 من ق.م.ج على ذلك ” يمكن لكل شخص ادعى أنه تضرر من جناية أو جنحة أن ينصب نفسه طرفا مدنيا عند تقديم شكايته أمام قاضي التحقيق المختص ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”.

ب- الشكاية المقدمة أمام هيئة الحكم مباشرة

وتسمى كذلك بالاستدعاء المباشر وهي عبارة عن مقال يقدم إلى رئيس المحكمة يتضمن الهوية الكاملة للمشتكي والمشتكى به ونوع الجريمة والفصول المعاقبة لها، ثم تؤدى عنها الرسوم القضائية بما فيها الرسم الجزافي أو الكفالة فيحيلها رئيس المحكمة على القاضي الزجري ويحيل نسخة منها على النيابة العامة التي تبدي ملتمساتها بشأنها، وما إن تقدم هذه الشكاية حتى تصبح الدعوى العمومية المحركة بشأنها ملكا للنيابة العامة ولا يوقف التنازل بشأنها سير الدعوى العمومية ما لم يكن القانون قد نص على خلاف ذلك، وقد عالجها المشرع في المادة 384 حين نص على طرق رفع الدعوى إلى المحكمة الابتدائية. ” … بالاستدعاء المباشر الذي يسلمه وكيل الملك أو الطرف المدني للمتهم …”

كما تطرق لمبدأ الاستدعاء المباشر بتفصيل في إطار حديثه عن المطالبة بالحق المدني وذلك بالمادة 348 وما بعدها من ق.م.ج حيث جاء في المادة 350 أنه إذا أقام الطرف المدني دعواه عن طريق إيداع مذكرة، تعين عليه أن تتضمن هذه المذكرة البيانات الكفيلة للتعريف به وأن تبين الجريمة المترتبة عنها الضرر ومبلغ التعويض المطلوب والأسباب المبررة للطلب.

شكليات الشكاية

لابد للشكاية من شكليات يجب احترامها وهي كالتالي :

1.الكتابة : وهي من الشكليات الأساسية في الشكاية إذ لابد لها أن تكون محررة في ورقة، إذ تعتبر هي أول وسيلة في إثبات جرم معين، وقد تكون مكتوبة بخط المشتكي أو بواسطة الراقنة أو الحاسوب المهم أنها تأتي في شكل وثيقة، كما يعتبر تصريح المشتكي أمام الضابطة القضائية أو ممثل النيابة العامة في محضر رسمي هو بمثابة شكاية مكتوبة تقدم بها المشتكي، أما التصريح الشفوي أو عبر الهاتف، فلا يدخل في إطار الشكايات إذ يعتبر إما وشاية أو إخبارا حسب الأحوال. وقد دأب عمل الضابطة القضائية على كتابة كلمة مشتكي في طرة المحضر المتضمن لتصريحات هذا الأخير، وكتابة كلمة مصرح في طرة باقي المحاضر التي لا تتعلق بتصريح المشتكي.

2.التوقيع : هو بصمة المشتكي على الشكاية سواء بالتوقيع عليها أو وضع بصمته في أسفل الشكاية وعدم وجود هذا التوقيع تعتبر الشكاية معه مجرد وشاية ولا يمكن نسبتها إلى الشخص المذكور اسمه بها كمشتكي, اللهم إذا كان قد نسي التوقيع عليها، فبعد الاستماع إليه رسميا يتم تدارك الأمر، ويعتبر تصريحه بالمحضر الرسمي هو أول وثيقة صحيحة شكلا يمكن اعتبارها شكاية منه.

ولا فرق هنا بين التوقيع الشخصي أو توقيع الوكيل أو الممثل القانوني أو خاتم المؤسسة المهم أن تختم الشكاية بتوقيع يؤكد نسبتها لمحررها.

الجهة المشتكى لديها

لابد من أن تكون الجهة المشتكى لديها جهة قضائية لتكون لها صلاحية البحث في مضمون الشكاية, وتبقى هذه الجهة هي مختلف مؤسسات النيابة العامة على اختلاف درجاتها وأماكن تواجدها وكذا الضابطة القضائية العاملة تحت إمرتها، والإدارات العمومية التي لها حق الامتياز في تحريك الشكاية في بعض الجرائم الداخلة في اختصاصاتها مثل إدارة الجمارك، ومصلحة قمع الغش، ومصلحة مخالفات البناء، أما وأن توجه شكاية بشأن جرم معين إلى جهة إدارية أو خاصة فإن هذه الأخيرة ليس لها إلا الحق في إخبار النيابة العامة عن طريق إرسال الشكاية إليها رفقة كتاب.

كما لو قدمت شكاية أمام عمالة أو ولاية أو لدى البرلمان أو أحد مجالس حقوق الإنسان أو جمعية لها اهتمام بموضوع الشكاية، أو مؤسسة لها صفة المنفعة العامة أو اهتمام بفئة معينة كما هو الشأن بالنسبة للمؤسسة المهتمة بقضايا المهاجرين المغاربة، فتحال الشكاية للجهة القضائية المختصة للبحث بشأنها. وفي قانون الإرهاب أعطى المشرع الحق حتى للسلطة العسكرية لتلقي الشكايات والتبليغ عن وجود عمل إرهابي, وذلك لما لهذه الجريمة من خطر يستوجب معه إشراك جميع المؤسسات العمومية لمكافحته, بما فيها المؤسسة العسكرية التي قد تكون هي نفسها المستهدفة في الفعل الإرهابي.

4.الاختصاص المكاني والنوعي

لابد للمشتكي أن يحترم في توجيه شكايته الترتيب المنصوص عليه قانونا في الفصل 44 من قانون المسطرة الجنائية بالنسبة للاختصاص المكاني، وهو مكان ارتكاب الجريمة أولا ثم محل إقامة الأشخاص المشتبه فيهم ثانيا ثم مكان إلقاء القبض ثالثا، لو تم القبض لسبب آخر.

المادة 44:{ يرجع الاختصاص المحلي إما لوكيل الملك في مكان ارتكاب الجريمة، وإما لوكيل الملك في محل إقامة أحد الأشخاص المشتبه في مشاركته في ارتكابها، وإما لوكيل الملك في مكان إلقاء القبض على أحد هؤلاء الأشخاص ولو تم هذا القبض لسبب آخر}

 تم بعد ذلك الترتيب المنصوص عليه في الفصل 252 وما بعده من ق.م.ج , والمتعلق بالاختصاص النوعي, والذي يحدد مجال اختصاص كل محكمة ونوعية الجرائم التي لها حق النظر فيها.

5.الإذن :

اشترط المشرع المغربي في بعض الشكايات إذنا أو ترخيصا من جهة معينة لممارسة الحق في التشكي أو اللجوء إلى القضاء ومنها على سبيل المثال لا الحصر – الإذن أو التوكيل الخاص الممنوح من المشتكي للمحامي لرفع شكاية من أجل التزوير، وذلك لأن ادعاء التزوير سواء في محضر رسمي أو وثيقة رسمية أو عرفية من شأنها وقف سير الدعوى الأصلية إلى حين البت في الشكاية الخاصة بالزور، كما من شأنه المس بالثقة التي وضعها المشرع في الصكوك أو في الجهات القائمة على إنجازها، وحتى يكون المشتكي واع بما هو مقدم عليه وما يمكن أن يجر عليه من دعاوى مستقبلية كالوشاية الكاذبة أو إهانة موظف أو التعويضات الناجمة عن الضرر الحاصل جراء الشكاية، كان لابد من أن يكون موافقا وعارفا بما سيلجأ إليه محاميه من إجراءات، حتى لا يدفع مستقبلا بجهله بموضوع الشكاية ويلقي باللوم على وكيله.

كما كان يشترط الإذن سابقا من البرلمان للتمكن من متابعة برلماني من أجل فعل يعد جريمة ما لم يتعلق الأمر بحالة التلبس.

وكذلك الشأن بالنسبة لمدونة الانتخابات التي تشترط في مادتها 105 على أنه لا تجوز متابعة أي مرشح عملا بالمواد من 100 إلى 102 قبل إعلان نتائج الاقتراع، وهذا يمكن أن نعتبره إذنا ضمنيا مادام أن إقامة الدعوى العمومية لا يمكن تصورها قبل الإعلان عن نتائج الاقتراع.

وتبقى الحالات التي يشترط فيها الإذن من أجل تحرك وإقامة الدعوى العمومية متعددة، الهدف منها وضع حاجز مادي بين مقدم الشكاية والجهة المختصة بالنظر فيها إلى حين الحصول على هذا الإذن، والذي قد يتأخر في الصدور فيؤثر سلبا على ظروف إثبات الجرم.

6.الصفة :

علما أن الصفة في التقاضي هي من النظام العام ويمكن إثارتها في جميع مراحل الدعوى، إلا أن المشرع المغربي اعتبر أن كل متضرر من فعل جرمي له الحق في التشكي والتنصب كمطالب بالحق المدني المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية والمادة 92 من قانون المسطرة الجنائية ولكون الصفة في الشكاية لا يمكن تحديدها مادام أن الجرم والمجرم أمر مفترض ولم يتم التأكد بعد من وقوع الفعل وتورط الفاعل، فإن الصفة تتوضح شروطها مستقبلا بتقدم البحث في النازلة، كما أن المشرع اعتبر أن كل شخص هو ملزم بالتبليغ عن الجرائم، أي أن كل شخص له الصفة في التشكي، وبالتالي لا يعتبر المشرع الصفة من النظام العام بالنسبة للشكاية ومثالها المادة 44 من قانون المسطرة الجنائية، التي تنص على ما يلي : يجب أيضا على كل من شاهد ارتكاب جريمة تمس بالأمن العام أو بحياة شخص أو أمواله أن يبلغ وكيل الملك أو الوكيل العام للملك أو الشرطة القضائية.

كما اعتبر المشرع المغربي الصفة في التبليغ عن الجنايات أمر لصيق بكل مواطن لما عاقب في المادة 299 بالحبس من شهر إلى سنتين كل من علم بوقوع جناية أو شروع فيها ولم يشعر بها السلطات فورا.

وعاقب في المادة 295 من كان يقدم مساعدات للعصابات الإجرامية وهو عالم بذلك إذ العقوبة هنا المحددة ما بين خمس وعشر سنوات تم سنها لفعل عدم التبليغ كفعل رئيسي وعن تقديم العون كفعل ثانوي، وما يؤكد هذا هو أن المادة 296 بعدها متعت المخبر منهم بالإعفاء من العقاب متى بلغ السلطات العامة عن هذه العصابة أو عن الاتفاق.

وذهب المشرع بعيدا إذ اعتبر الصفة في التشكي أمرا يهم كل شخص وأنه ملزم بالإبلاغ عن الجرم، وذلك حينما تدخل في السر المهني واعتبر الطبيب غير ملزم به للتبليغ عن الإجهاض الذي علم به بمناسبة ممارسة مهامه وإن كان غير ملزم بهذا التبليغ وكذا عن الأفعال الجرمية وسوء المعاملة والحرمان ضد الأطفال والأزواج متى علم بهذا بمناسبة مزاولته لمهامه.

كما اعتبر في المادة 17 من ظهير الصحافة الصادر بتاريخ 15/11/1958 مدير النشر غير مقيد بالسر المهني, إذا ما طلب منه وكيل الملك إطلاعه على الهوية الحقيقة لصاحب المقال، ومن هنا يمكن أن نفهم أن المشرع المغربي لم يجعل الصفة شرطا أساسيا في الشكاية، لأن هدفه اتجه إلى الكشف عن الجرائم بكل الطرق ومن مختلف الجهات ليعتبر كل مواطن نفسه معنيا بالتبليغ عن الجريمة بغية محاربتها وزجر مرتكبيها.

بل إن حتى الشكاية المقيمة للدعوى العمومية والتي لا يمكن متابعة مرتكب الجرم بشأنها إلا بوجودها, كما هو الشأن بالنسبة لجريمة الخيانة الزوجية التي تشترط لزاما وجود شكاية أحد الزوجين, فإنه بمجرد الإشعار بها من طرف أي شخص يتم البحث بشأنها وإلقاء القبض على مرتكبيها ثم بعد ذلك يتم الاتصال بالزوج الضحية لتأكيد شكايته أو التنازل عنها.

7.وجه المخالفة للقانون الجنائي:

لابد من كل شكاية أن تكون في شكل إبلاغ عن فعل يعتبر جريمة بمفهوم القوانين الزجرية، إذ أن ثبوت ارتكابه يترتب عنه عقوبة زجرية في شكل حبس أو غرامة مالية، وهذا للقول بقبولها من طرف الجهة المقدمة إليها أما الشكايات من أجل أعمال لها صبغة مدنية أو ليست لها صفة المخالفة للقانون الجنائي فلا يمكن اعتبارها شكايات ويتم الفصل فيها على حالتها باعتبارها تكتسي صبغة مدنية أو لانعدام وجه المخالفة للقانون الجنائي ومثالها : تقدم المكري بشكاية ضد المكتري الذي لم يؤدي وجيبة الكراء أو تقدم شخص ضد جاره كونه وضع لاقطا للاتصالات فوق سطح منزل هذا الأخير، ومن المحتمل أن يشوش عليه بذلك.

والإشكال الذي يثار هنا لمستقبلي الشكايات هو ذلك التشابه والتداخل بين بعض الأفعال والتصرفات التي تحتمل الوجهين فقد ينظر إليها على أساس أنها فعل جرمي كما يمكن تفسيرها على أنها ذات طابع مدني، ومنها مثلا بعض الأفعال التي تدخل إما في خانة جنح خيانة الأمانة أو ضمن المسؤولية التقصيرية ,كسائق الشاحنة الذي يمكن متابعته في إطار القانون المدني بدعوى المسؤولية التقصيرية فيما يصطلح عليه بضياع الطريق، كما يمكن متابعته من أجل جنحة خيانة الأمانة عن البضائع التي ضاعت منه أثناء النقل، ويبقى ركن سوء النية هنا هو الفيصل بين الدعويين.

 أنواع الوشايات

لم يعرف المشرع المغربي الوشاية، وإنما ترك مفهومها في اصطلاح الكلمة نفسها إذ نص في المادة 21 من ق.م.ج على أن ضباط الشرطة القضائية يتلقون الشكايات والوشايات، وفي المادة 40 من ق.م.ج أن وكيل الملك يتلقى المحاضر والشكايات والوشايات، وكذا المادة 49 من ق.م.ج التي جاء فيها أن الوكيل العام للملك يحيل ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات إلى هيئات التحقيق وهيئات الحكم المختصة.

وانطلاقا من هذه المواد يمكن القول أن كل إخبار عن جريمة معينة يعتبر وشاية, مادام أن المخبر أو الواشي فضل عدم الكشف عن هويته أو عدم توقيع شكايته المكتوبة لأنه غير معني بمضمون الوشاية في حد ذاتها، أو أنه يخبر عنها لأنه ملزم بذلك بحكم وظيفته أو موقعه الاجتماعي، وإذا كانت بعض الوشايات أو الإخباريات تكون صادرة عن صاحبها بدافع المواطنة أو بدافع الدين، كالنهي عن المنكر أو بدافع الغيرة، ويفضل طمس هويته خوفا من جبروت المشتكى به أو خوفا من خدش علاقة بينهما، فإن أغلب الوشايات تتم عن سوء نية الواشي الذي فضل عدم الكشف عن هويته, لأنه يهدف من وراءها الإضرار بالموشى به، إما على وجه الباطل أو بدافع الانتقام، ومن هؤلاء الأشخاص الواشون من يدخل في مرحلة الإدمان، ففي مفهوم علم الإجرام هناك أشخاص بسيكوباتيون مصابون بأمراض عقلية وظيفية، تصنف في باب جنون الكذب Les mythomanes، فهم يكذبون كما يتنفسون وما يهمنا منهم هو صنف المنتقمين Les vengeurs، والذين يتلددون في الانتقام من الأشخاص بإشاعة الكذب والافتراء عليهم بقصص وأحاديث من صنع خيالهم، للمس بسمعة وكرامة ضحاياهم، ومنهم من يتخذها وظيفة له يسترزق منها أو يجعلها مطية لأهدافه السياسية ويسمون بالمتحكمون في الرأي العام Les manipulateurs d’opinion .

لهذا تنبه المشرع المغربي لهذا الجنوح ورتب على مرتكبه جزاء إذ عاقبه في المادة 445 من القانون الجنائي التي جاء فيها : “من أبلغ بأي وسيلة كانت وشاية كاذبة ضد شخص أو أكثر إلى الضباط القضائيين أو إلى ضابط الشرطة القضائية أو الإدارية أو إلى هيئات مختصة باتخاذ إجراءات بشأنها أو تقديمها إلى السلطة المختصة، وكذلك من ابلغ الوشاية إلى رؤساء المبلغ ضده أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، يعاقب بالحبس من ستة اشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى الف درهم، ويجوز للمحكمة أن تأمر علاوة على ذلك، بنشر حكمها كله أو بعضه في صحيفة أو اكثر على نفقة المحكوم عليه.

واذا كانت الوقائع المبلغ عنها تستوجب زجرا جزائيا أو إداريا، فان المتابعة عن الوشاية الكاذبة، تطبيقا لهذا النص، يمكن الشروع فيها، إما عقب الحكم النهائي ببراءة المبلغ ضده أو إعفائه أو عقب صدور أمر أو قرار بعدم متابعته أو عقب حفظ الشكاية بأمر من أحد رجال القضاء أو الموظف أو رئيس المبلغ ضده أو مستخدمه المختص بالبت في الشكاية.

وعلى المحكمة التي ترفع لها الدعوى بمقتضى هذا الفصل، أن تأمر بوقف نظر دعوى البلاغ الكاذب، اذا كانت المتابعة عن الواقعة المبلغ عنها لا زالت جارية”

 وعاقب كذلك من يكذب على السلطات العامة واعتبرها إهانة في حق الموظف أو الهيئة، إذ عاقب في المادة 264 من ق.ج كل من يبلغ السلطات العامة عن وقوع جريمة يعلم بعدم حدوثها أو بتقديم أدلة زائفة متعلقة بجريمة خيالية أو التصريح لدى السلطات القضائية بارتكابه جريمة لم يرتكبها ولم يساهم فيها ونلاحظ أن المشرع هنا عاقب حتى الواشي ضد نفسه وهو من يبلغ عن جريمة لم يرتكبها ولم يساهم فيها، وهذا لما لخطورة الوشاية على المجتمع، من إحداث الاضطراب الاجتماعي والمس بالنظام العام، وتنقسم الوشاية إلى ثلاث أنواع وهي :

1.الوشاية المجهولة المصدر

وتكون غالبا في شكل رسالة غير موقعة، صادرة عن شخص أو جهة مجهولة، الهدف منها التبليغ عن جريمة لم يتم الكشف عنها بعد وهي متعددة الوجوه :

– الوشاية التي تخبر عن شخص معلوم قام أو يقوم بأفعال مجرمة، يكون الهدف منها المس به مباشرة والنيل منه بأن يطوله العقاب ومثالها كأن يوشى بموظف يتلقى رشاوى للقيام بوظيفته.

– الوشاية التي تخبر عن جريمة معينة دون اعتبار لمرتكبيها، الهدف منها إيقاف الجرم لما يحدثه من أضرار، ومثالها من يوشي بظاهرة البغاء والقوادة في مكان يرتاده العموم.

– الوشاية التي تخبر عن وجود ضحية فعل جرمي وراءه فاعل مجهول أو غير معروف لدى الواشي، ومثالها من يوشي بوجود طفلة خادمة معنفة تسكن بحي معين.

– الوشاية التي تخبر ضحية الجريمة مباشرة دون إخطار السلطات العامة والتي يكون الهدف منها تكسير روابط أو علاقات اجتماعية في حد ذاتها دون أن يطال الفاعل أي عقاب ومثالها من يوشي لامرأة أن زوجها يخونها مع سيدة أخرى.

– الوشاية التي تخبر جهة غير قضائية بوجود مخالفة معينة ومثالها كمن يوشي بمعلم لدى مدير المدرسة أو بإمام مسجد لدى مندوب الأوقاف كون هذا الأخير يخالف تعاليم الدين أو المذهب المالكي مثلا.

2.الوشاية الإخبارية

الوشاية الإخبارية هي كل إشعار للسلطة القضائية وبأي طريقة بأن هناك جريمة معينة يجب البحث بشأنها أو أن هناك شخص مشتبه فيه المادة 42 من ق.م.ج “يجب على كل سلطة مختصة وعلى كل موظف بلغ إلى علمه أثناء ممارسته لمهامه ارتكاب جريمة أن يخبر بذلك فورا وكيل الملك أو الوكيل العام للملك وأن يوجه إليه جميع ما يتعلق بالجريمة من معلومات ومحاضر ووثائق”.

وغالبا ما تصدر عن جهات إدارية أو مؤسسات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إلا أنها تكون وإلى حد بعيد غير معنية بأمر الجريمة بقدر ما هي معنية بالتبليغ عنها وقد كرس المشرع المغربي هذا المبدأ إذ اعتبر أن الواشي غير معني بموضوع شكايته لأنه لم يلزم وكيل الملك بإشعاره بالمآل الذي صار إليه البحث, وذلك من خلال المادة 40 من ق.م.ج، التي تنص على أنه يتعين على وكيل الملك إذا قرر حفظ الشكاية أن يخبر المشتكي أو دفاعه بذلك خلال 15 يوما تبتدئ من تاريخ اتخاذه قرار الحفظ، ونرى هنا أن المشرع لم يتحدث عن مآل الوشاية إذا تقرر بشأنها الحفظ وعن وجوب إخبار الواشي بهذا المآل.

وتختلف الوشاية الإخبارية عن الوشاية المجهولة المصدر في أن الأولى تكون معلومة المصدر وصادرة عن جهة أظهرت اسمها وصفتها معبرة بذلك عن اهتمامها بالإخبار عن الجريمة دون أن تكون لها رغبة أو اهتمام بمآل الإخبارية, ومثالها الكتب التي تصل إلى مكتب وكيل الملك أو الوكيل العام للملك من طرف العمال والولاة ومندوبو المصالح الخارجية للوزارات والجمعيات والنقابات والتي تشعر أغلبها بوجود جريمة أو حالات مخالفة للقوانين الجاري بها العمل، ويلزم ذلك تدخل الجهات القضائية للبحث بشأنها أو إيقاف مرتكبيها.

أما وإن كان موضوع الوشاية يدخل ضمن اختصاصات الجهة الواشية فيمكن اعتبار الوشاية آنذاك شكاية مادامت الجهة الواشية يمكن أن تتقدم كمطالب بالحق المدني في مواجهة الفاعل.

ومثالها تقدم جمعية تهتم بمجال الطفل بشكاية إلى الجهة القضائية المختصة من أجل وجود حالة اعتداء جنسي أو جسدي على طفل فتسمى هنا شكاية لأنه من حق الجمعية إذا توافرت فيها الشروط الواردة بالمادة 7 من ق.م.ج أن تتنصب كمطالب بالحق المدني في مواجهة الفاعل.

3.الوشاية الابتزازية

يبقى الهدف الأول والمباشر للوشاية الابتزازية هو الاستفادة المالية أو العينية وذلك بتهديد المتورط في جرم معين بإفشاء سره إذا هو لم يقدم مبلغا معينا من المال أو لم يسدي خدمة معينة للواشي وتبتدأ في مراحلها الأولى بتوجيه رسائل مجهولة أو مكالمات هاتفية مجهولة تخبر الموشى به أن أفعاله وأسراره معلومة لدى المخبر وأن عليه الإذعان لما ستتم المطالبة به مستقبلا, وإلا سيكون مآله إخبار السلطات العامة وفضح أمره لدى عائلته أو رؤسائه، ثم بعد ذلك تتكرر في شكل ضغط يؤثر على نفسية الموشى به حتى يستسلم للموشي, وعاقب المشرع المغربي عن هذه التصرفات بمقتضى المادة 538 من ق.ج التي جاء فيها : “من حصل على مبلغ من المال أو الأوراق المالية أو على توقيع أو تسليم ورقة مما أشير إليه في الفصل السابق وكان ذلك بواسطة التهديد بإفشاء أو نسبة أمور شائنة، سواء كان التهديد شفويا أو كتابيا يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائة وعشرين إلى أفي درهم”.

4.الوشاية الغير المجدية

يبقى هذا النوع من الوشايات غير مؤثر في الأشخاص الموشي بهم ولا في سير الدعوى العمومية لأنه لا ينتج عنه أي أثر قانوني وهو نوعان :

  • الوشاية المخبرة عن فعل لا يعد جريمة بمقتضى القانون، كمن يوشي بأن جاره يكذب على سكان الحي أو أنه يبيعهم بعض الملابس بداخل منزله أو أن جاره اشترى منزله منذ 5 سنوات ولازال لم يقم بتحفيظه وتسجيله.
  • الوشاية المخبرة عن جريمة سبق البت بشأنها، أو أن البحث جار فيها، فتأتي هذه الوشاية لاحقة لسير الدعوى العمومية أي أنها لم تأتي بشيء جديد يفيد البحث، فيكون مآلها الضم للملف الأصلي دون إعطاءها أي اهتمام مادام الفعل الموشى من أجله أصبح جرما معلوما لدى السلطات المعنية بالأمر.

كما يمكن لهذه الوشاية أن تبقى غير ذي جدوى متى لم توجه إلى جهة لها الحق في تحريك الدعوى العمومية وذلك متى وجهت لجهة أخرى لم تحرك بشأنها ساكنا وظلت لديها طي الكتمان.

ومثالها كمن يوشي بشخص ارتكب جريمة لدى رب العمل هذا الأخير الذي اكتفى بتوبيخ الأجير دون إشعار السلطات القضائية لاتخاذ المتعين قانونا بشأنه.

شكليات الوشاية

ليسن للوشاية أي شكليات في التحرير خلافا للشكاية وذلك لأن الوشاية قد تأتي في شكل محرر مكتوب أو تعبير شفوي أو اتصال هاتفي أو رسالة إلكترونية، فطرق تبليغها متعددة ومختلفة باختلاف الهدف منها مادام أن صاحبها وفي أغلب الحالات يفضل عدم الكشف عن هويته أو يكون غير مهتم بمآل نتيجتها، لأنه غير ملزم بشكليات معينة في تحريرها طبقا للقانون، فتبقى بالتالي كل وشاية مختلفة في شكلها ومضمونها عن باقي الوشايات ولا يمكن قانونا مساءلة أحد عن الشكل وهو غير ذي صفة.

وحسنا فعل المشرع من خلال مضامين النصوص حينما اعتبر كل إبلاغ عن جريمة معينة يعتبر وشاية وذلك لإشراك الجميع في محاربة الجريمة والتبليغ عنها والتعريف بمرتكبيها.

الخاتمة

إن عدم تعريف المشرع المغربي لمفهومي الشكاية والوشاية من شأنه خلق تداخل في المفاهيم والتفسيرات التي يمكن أن تعطي لكلا الكلمتين، وهذا من شأنه ترتيب آثار قانونية غير التي نص عليها المشرع أو مخالفة لما يقتضيه روح القانون من الإخبار بالجرائم والمجرمين وذلك لإشراك المواطن في محاربة الجريمة واستتباب الأمن، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي كما أن نية المشتكي تؤثر في تسمية الإجراء القائم به فالمشتكي سيئ النية متى تبت أن شكايته كانت كيدية الهدف منها الافتراء على المشتكى به، الذي استفاد من حكم بالبراءة أو قرار بالحفظ يمكن أن يتقدم بشكاية في مواجهة المشتكي ويسمي شكاية الأول بالوشاية الكاذبة.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

  ذ: عبد العالي المصباحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error:

Managed by Immediate Bitwave